تحشم يا ولد .. فهذا رسول الله!
الجمهورية الجديدةبقلم: خادم الجناب النبوي الشريف / محمد إبراهيم العشماوي - أستاذ الحديث الشريف وعلومه في جامعة الأزهر الشريف
الحديث عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ شديد الحساسية؛ لأن أدنى إساءة أدب في الحديث عن حضرته أو مع حضرته؛ قد تُخرج صاحبها من الإيمان!
وقد جعل الله رفع الصوت عليه والجهر له بالقول؛ محبطا للعمل، فكيف بإساءة الأدب في الحديث عنه، ولو بدعوى حماية جناب التوحيد!
وقد أجمع أهل الملة - إلا الشواذ - على أنه صلى الله عليه وسلم قد حاز كل كمال بشري، وأنه مهما قيل فيه من أوصاف الكمال فهو قليل في عظيم لا منتهى لعظمته، وأنه ينبغي بل يجب سلوك طريق الأدب والتوقير لحضرته عند الحديث عنه، تأسيا بما حكاه الله تعالى في كتابه من خطابه لحبيبه بالأدب الوافر التام، من نحو قوله: "عفا الله عنك، لِمَ أذنتَ لهم"، فقدم العفو قبل العتاب، تنبيها على الأدب في خطابه صلى الله عليه وسلم، ومن نحو قوله: "وما كنتَ بجانب الطور إذ نادينا"، فانظر كيف حذف وصف (الأيمن) من (الطور) وهو مثبت في آيات أخر؛ لئلا يعرِّض بنفي اليُمْن عنه؛ لكونه واقعا في حيز النفي!
قال أهل العلم: وهو أصل في الأدب عند مخاطبة الأكابر!
والمتعرض لإساءة الأدب عند الحديث عنه صلى الله عليه وسلم، بزعم عدم المغالاة فيه حتى لا تفضي إلى الشرك؛ متعرض للخطر، وقلَّ من خاض في هذا، فسلم له إيمانه، نسأل الله السلامة!
وأما أهل الأدب والحشمة معه صلى الله عليه وسلم؛ فقد سلكوا طريق الجادة، ودخلوا حصن الأمان، فرضي الله عنهم وأرضاهم!
وانظر - يا موفق - هذا المثال، واقْتَدِ بهؤلاء الرجال!
قال الإمام ابن الرِّفْعة: الحق الذي أعتقده، وألقى الله به؛ أن فضلات النبي صلى الله عليه وسلم طاهرة!
قلت: ابن الرفعة هو الإمام نجم الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن علي بن مرتفع الأنصاري، المعروف بابن الرفعة، شيخ المذهب الشافعي في عصره، الملقب بالفقيه، المتوفى سنة ٧١٠، له شرح عظيم على (التنبيه ) لأبي إسحاق الشيرازي، و (الوسيط) لأبي حامد الغزالي، وَلِيَ حِسْبة القاهرة والوجه القبلي مدة، وناب في الحكم، ثم عزل نفسه!
وذكر الحافظ ابن حجر في ترجمته، في (الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة)؛ أنه كان قد نُدب لمناظرة ابن تيمية، فسئل ابن تيمية عنه بعد ذلك، فقال: "رأيت شيخًا تتقاطر فروع الشافعية من لحيته"!
وهذا التصريح منه في حق النبي صلى الله عليه وسلم؛ معدود في فضائله رضي الله تعالى عنه، محسوب له عند الله، وعند رسول الله؛ فإنه جزم به اعتقادا، ولم يُبْدِ فيه أي احتمال!
جزاك الله خيرًا يا ابن الرفعة، ورفع في الدارين ذكرك، كما تحشمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولزمت عتبة الأدب!
ودونك أيضا هذا المثال، فعضَّ عليه بالنواجذ!
قال الإمام الهمام تاج الدين بن السبكي في كتابه (الإبهاج في شرح المنهاج)، الذي أكمل به شرح والده الإمام تقي الدين السبكي لمنهاج البيضاوي في علم الأصول: "والذي جزم به كونه - صلى الله عليه وسلم - لا يخطئ اجتهاده؛ هو الحق، وأنا أطهِّر كتابي أن أحكي فيه قولا سوى هذا القول، بل لا نحفل به، ولا نعبأ!".
فانظر كيف طهَّر كتابه مما قد يُتوهم أنه إساءة إلى حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو القول بجواز الخطأ عليه صلى الله عليه وسلم في اجتهاده، وعدَّه قولا مهدرا، لا يّحفل به ولا يُعبأ، مع أنه مذهب كثير من الأصوليين!
فرضي الله عن آل السبكي، أهل الحب والقرب والعلم والأدب مع الجناب النبوي الشريف!
والأمة كلها تعلم أنه صلى الله عليه وسلم بشر، لكنه ليس كسائر البشر، كما أن الياقوت حجر، وليس كسائر الحجر، وهذا ما صرح به صلى الله عليه وسلم نفسه في قوله الشريف: "إني لست كهيئتكم"، وأن الله تعالى قد حباه خصائص لم يَحْبُها غيره من الأنبياء والرسل، فضلا عن سائر الخليقة، وأن ذلك كله لم يخرجه من دائرة البشرية إلى دائرة الألوهية، إلا في نظر المهووسين بالشرك، وذرائع الشرك، ونواقض التوحيد!
وقد اعتنت الأمة بذكر خصائصه صلى الله عليه وسلم، وسجلها العلماء في تصانيفهم التي تندُّ عن الحصر!
نسأل الله أن يؤدبنا بأدب هؤلاء السادة مع حبيبه ومصطفاه، وأن يرزقنا شفاعته يوم نلقاه، وما ذلك على الله بعزيز.