يا باغي الخير أقبل


الحمد لله الذي حمدا يليق بجلال جمال كمال افضال عزه والحمدُ لله لا يُحمَد حقًّا إلا الله، الحمد لله على بلوغ رمضان حمدًا يُوافي نعمه وعطاياه،
وأشهد أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه، ونبيُّه وصفيُّه ونجيُّه، ووليُّه ورضيُّه ومجتباه.
اما بعد
هنيئًا للامة الاسلامية بهذا الشهر الذي نورت لياليه بالتجليات ،
أيها المسلمون (أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ)
يقول صلى الله عليه وسلم: (إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ، وَمَرَدَةُ الْجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجِنَانِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَنَادَى مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ)
فيا باغي الخيرِ أقبل ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ ﴾ وما أدراك ما شهرُ رمضان فهذا شهرُ إقالة العثرات، وزمان غفران الأوزار، ووقت الإنابة، ولحظة الإجابة من الكريم لمن طرق بابه، هذا أوان الإياب ﴿ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ﴾. فطوبى لمن غسل في رمضان درن الذنوب بتوبة، ورجع عن خطاياه قبل فوت الأوبة. يا باغي الخيرِ أقبل فهذا نسيمُ القبول هبَّ، هذا سيلُ الخير صبَّ، هذا الشيطانُ تبَّ، هذا بابُ الجنة مفتوحٌ لمن أحبَّ، هذا أوان الجد لمن كان مجدًّا، هذا زمان التعبُّد لمن كان مُستعِدًّا فطوبى لمن خاف الويل، فأوفى الكيل، وشمَّرَ عن الذيل، وجدَّ في التعبُّد في جنح الليل، بقلبٍ مشرق، وشوقٍ محرق، وأنينٍ مقلق، فأيام رمضان تاجٌ على رأس الزمان، مَنْ رُحِم فيها فهو المرحوم، ومن حُرِم خيرها فهو المحروم، ومن لم يتزوَّد من عامه فيها فهوَ الظلوم الملوم.
فيا باغي الخيرِ أقبِل فهذا شهرُ العتق من النيران، شهر فكاك الرقاب من دار الشقاء والحرمان، شهرُ التخلُّصِ مِن الخذلان والهوان، شهرٌ يُطلَقُ فيه العَاصِي، ويُفكُّ فيه العانِي، ويُعتَقُ فيه الجانِي. طوبى لمن أحسنَ الصيام والقيام، وحَمَى جوارحَه عن موارد الآثام، وأمسَكَ عن فضول الكلام، وسابق الدقائق واللحظات والليالي والأيام، فاغتنَم الخيرات خيرَ اغتنام.
فيا باغي الخير أقبل وليكن رمضان بشارةَ فجرِك، وإشراقةَ صُبْحِك، وعنوانَ توبتِك، وبدايةَ أوْبَتِك، ولتكن لهجة قلبك، ونغمة فؤادك، ولغة روحك، وحداء هيامك، فالعجب كل العجب ممَّن يُدرِك رمضانَ فلا يُصلحه صيامُه، ولا يهزُّه قيامُه، ولا تُغيِّرُه أيَّامُه، عَجَبًا ممن يدرك رمضانَ وهو يطمع في الجنة والمغفرة، ثم يضيِّعه في الْمُلْهِيَات والمنهيات والمُحرَّمات، ويا ضيعةَ مَنْ فاته خيرُ رمضان، ويا شقوةَ مَنْ أضاع شهرَ رمضان.
يا باغي الخير، إنَّ مما يُعينك على نفسك، وينفعك في قبرك، وينصرك على أهوائك، ويشفيك من امراضك، ويسدُّ خللك، ويذهب عِللك، ويشرح فؤادك، ويُحقِّق مرادك، ويزيل غمك، ويكثر غُنْمك، ويرضي ربك، ويطهر جوارحك ، أن تحسم إرادتك، وتحزم إدارتك، وتحسن عبادتك، ولتحقيق ذلك؛ حدِّث نفسك قائلًا: لعل هذا العمل الصالح آخر عمل في حياتي.
يا باغي الخير
﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾
إن ركاب السابقين إلى الله في رمضان يحدوها هذا الأثر(رغِمَ أنفُ رجلٍ دخلَ عليه رمضان ثم انسلَخَ قبل أنْ يُغفَرَ له). فلا تكُن ممَّن أبَى وخرجَ رمضانُ ولم ينَل فيه الغُفرانَ والمنى. واحذر أن تكون ممَّن جاعوا بالنهار، وما فهموا كيف صاموا، وشبعوا بالليل فناموا وما قاموا بل قلِّلْ واختصِرْ، لعلك تغلب هواك وتنتصِر.
فمواسم الخيرات مراتع للحسنات، فإذا هبَّت رياح الطاعة، فاغتنمها كل ساعة، فأوقات رمضان سعادة، وطوبى لمن أحسن الاستفادة، وادَّخرها ليوم الوفادة. فاغنم منه اللحظات والدقائق، تتجلى لك المعاني والحقائق، واهتبل ساعاته تظفر بهباته، فما سعد من سعد إلا بذلك، وما شقي مَنْ شقي إلا بورود المهالك. وإن أتى رمضانُ واصطُفيتَ له فاخلَع ثيابَ الهوى وقُمْ على قدمِ وصُنْه عن كل ما يُردِيكَ من حُرُمٍ ولتعكِسِ النفسَ عكسَ الخيلِ باللُّجُمِ، أيها الصائمون، إنَّ شهرَ رمضان مَيدانُ سِباقٍ؛ لكنَّه سريعُ التقضِّي؛ فالأوقاتُ فيه تُنتَهَب، وما يفُوتُ منه فبالكسَلِ والتفريطِ، وما يُغتَنَمُ منه فبالجِدِّ والصَّبر، وإنَّ تعَبَ المُحصِّل فيه راحةٌ في العاقِبة، وراحةَ المُقصِّر فيه تعَبٌ في العاقِبة.
أيها المسلمون، لا تجرحوا صيامَكم بالزور، والإثم، والجهل، والظلم، فرُبَّ صائمٍ لا يقوم ثوابُ صيامِه في موازنة إثم ظلمِه وإجرامه، فاتقوا اللهَ يا مَنْ أمسكتُم عن المفطِرات والمفسِدات أثناءَ الصيام، وفعلتُم ما يجب اجتنابُه على الدوام، عن جابر بن عبدالله الأنصاري رضي الله عنه قال: إذا صُمْتَ فَلْيَصُمْ سَمْعُكَ وَبَصَرُكَ وَلِسَانُكَ عَنِ الْكَذِبِ وَالْمَحَارِمِ، وَدَعْ أَذَى الْخَادِمِ، وَلْيَكُنْ عَلَيْكَ وَقَارٌ وَسَكِينَةٌ يَوْمَ صِيَامِكَ، وَلَا تَجْعَلْ يَوْمَ فِطْرِكَ وَصَوْمِكَ سَوَاءً.
يا باغي الخير ليس الصومُ فقط الإمساكَ عن الشراب والطَّعام إنما الصومُ صومُ الجوارح عن الآثام، وصمتُ اللسانِ عن فضولِ الكلام، وغضُّ العينِ عن النظرِ إلى الحرام، وكفُّ الكفِّ عن أخْذِ الحُطام، ومنعُ الأقدامِ عن قبيحِ الإقدام.
وإن قلتُ: إني صمتُ يومًا فما صُمْتُ
أيها المتقون الصائمون، فتِّشُوا عن المحتاجين من أقربائكم، والمساكين من جيرانكم، والغرباء من إخوانكم، لا تنسوا بِرَّهم وإسعادهم، أشركوهم معكم في رزق ربِّكم، اذكروا جوع الجائعين، ولوعة الملتاعين، وعبرات البائسين، وغربة المشرَّدين، ووحشة المهجرين. وَمَا ضَاعَ مَالٌ أَوْرَثَ الْحَمْدَ أَهْلَهُ وَلَكِنَّ أَمْوَالَ الْبَخِيلِ تَضِيعُ.
يا باغي الخير اغتنم فسحة عمرك، وقوة بدنك في الإقبال على الخيرات في رمضان؛ فإن لكل شيء سوقًا، وإن سوق الآخرة رمضان، وإنَّ مَن هُيِّئ له أن يدخل السوق ليربح ثم انصرف عنه، فهو من أعظم الخاسرين، وإن الخسارة التي لا ربحَ بعدها؛ خسارةُ العبدِ مغفرةَ الله ورحمتَه فأقصِروا عن التقصير في هذا الشهر القصير،
ويا باغي الخير أقبل
اجتهدوا يا احباب ما استطعتم في إعتاق رقابكم، وفكاك أبدانكم، وشراء أنفسكم من الله جل جلاله، ولا تشغلكم الدنيا عن أداء المفروض، فإنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه اجمعين.